لماذا لا نتحدث كثيرا عن المفاهيم التي نوظفها كمصورين ومخرجين لإنتاج الصورة، حتى ليبدو للعديدين من غير المتخصصين أن التصوير هو عمل تقني بحت، وهي صورة مجحفة إلى حد كبير تسهم في تشويش قدرة المتعلمين الجدد على إدراك أبعاد هذا العمل والانخراط فيه بشكل صحيح ومبدع.
من المفاهيم الأكثر تداولا هو العزل أو Isolation ، وهي خاصية أصبح الكثيرون يدركون أهميتها وروعتها سواء على المستوى التشكيلي الجمالي أو على المستوى التعبيري، دائما الفنان يطارد المعنى من خلال الشكل.
أول ما يتبادر إلى أذهان الهواة والمبتدئين وحتى تجار الأدوات الفوتوغرافية عندما يسمع هذا المصطلح هو العزل التقني، بل وعنصر واحد فقط منه وهو العزل عن طريق عمق مجال الوضوح، اسأل أي مصور غير متخصص سيبادر إلى الحديث عن فتحة العدسة والبوكا Bokeh وأي تاجر ستجده يحدثك عن (عدسة العزل) أو أن هذه العدسة (أفضل في العزل) وطبعا غالبًا ما يقصدون العدسات ذات فتحة العدسة الواسعة (٢.٨) أو أوسع.
أهمية العزل هو أنه العمل التعبيري والتشكيلي الأهم بالنسبة للمصور والمخرج، فبينما كان الرسامون التقليديون يتباهون بالتفاصيل العديدة التي يضمنونها في لوحاتهم؛ جاء المصورون الفوتوغرافيون ليقدموا مهارة أخرى مضادة تمامًا لعمل هؤلاء الرسامين، ألا وهي مهارة إبراز التفاصيل؛ بينما فَخِر الرسام التقليدي بأنه يستطيع وضع عالم كامل داخل الإطار، تباهي المصورون الفوتوغرافيون بقدرتهم على اكتشاف عالم كامل في تفصيلة واحدة من تفاصيل الحياة وفي حالة عابرة تمر بها هذه التفصيلة في لحظة واحدة قد لا تستغرق أكثر مما تستغرقه غمضة عين أو ومضة فلاش سريع الطلقات. ونلاحظ أيضًا أن الدمج أو اللاعزل هو صورة من صور العزل أيضًا؛ فالمصور لا يعكف فقط على تحقيق العزل، لكنه يختار أن يعزل موضوعه أو لا يعزله، فإن عزله فلأي درجة يجعله مفصولا عن محيطه كليًا أم إلى حد معين. إدراك المصور أو المخرج لهذه النقطة هي ما يحدد قيمة العزل وأهميته وليس العدسة المستخدمة.
بدأت المسألة إذا مع التصوير الفوتوغرافي، ثم تطورت الأساليب مع مرور الأيام وتطور تقنيات التصوير وظهور السينما والألوان والصوت والبث التليفزيوني، استجابة لخصائص الوسائط المختلفة وحاجاتها الاتصالية وطرقها التعبيرية وتطور تقنياتها وحجم وضخامة الإنتاج والتمويل المتعلق بها.
إذا كيف يحقق المصور والمخرج عزل موضوعهم لتسليط الضوء عليه؟
أولا: هناك العزل الأكثر شيوعًا ومعرفة وهو عن طريق ظاهرة عمق مجال الوضوح أو ال(Depth of field)، التي تعني جعل الموضوع واضحًا بينما كل ما يحيط به (سواء أبعد منه أو أقرب إلى الكاميرا بنسب معينة) غائم أو مضبب أو (Blurred) أو (Out of focus) وبالمناسبة كثيرون من مخرجي التليفزيون يختصرون التعبير الأخير في حديثهم فيقولون إن الصورة (فوكاس) ويقصدون أنها غير واضحة مما يعكس معنى الكلمة ويسبب ارتباكًا عادة للمصورين المتخصصين الجدد.
تقنيًا يتحكم في عمق المجال أربعة عناصر هي:
فتحة العدسة (كلما اتسعت فتحة العدسة قل عمق المجال، ومن ثم زاد عزل الموضوع عن الخلفية).
البعد البؤري للعدسة، حيث العدسات ذات البعد البؤري الأكبر تعطي عمق مجال أقل، فمثلا العدسة ٨٠مم. تعطي عمق مجال أقل من العدسة ١٦مم. مما يعني أن خلفية الموضوع ستصبح أكثر ضبابية عند استخدام عدسة ٨٠مم.
المسافة من العدسة، كلما قلت المسافة بين الموضوع والعدسة نفسها كلما قل عمق المجال وزادت ضبابية الخلفية ومن ثم يزيد عزل الموضوع عن المحيط به، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل عدسة مسافة معينة لا يمكن تغيير التبئير (ضبط الفوكس) بعدها، وهي التي يطلق عليها نقطة اللانهاية، بعدها يصبح كل شيء واضحًا ولا يمكن في هذه الحالة توظيف ظاهرة عمق المجال لتحقيق عزل الموضوع.
العنصر الرابع هنا وهو الذي عادة ما يتم إغفاله، هو مساحة سطح المستشعر (السنسور) أو مساحة تعريض الصورة في الكاميرات القديمة، كلما زادت مساحة سطح السنسور يقل عمق المجال الناتج عن مختلف العدسات ومختلف فتحات العدسات بشكل ملحوظ، وهذا ما يجعل الكاميرات الرقمية التي تسمى ذات الإطار الكامل (Full Frame) تنتج صورة ذات عمق مجال أقل وخلفية أكثر ضبابية من الكاميرات ذات الإطار المقتطع (Cropped Frame). كاميرات الفيديو الرقمية ذات المستشعر الصغير جدا (في الغالب يتراوح بين ثُلث بوصة أو نصف بوصة أو ثلاثة أرباع بوصة أو بوصة واحدة كاملة) هذه الكاميرات تنتج صورة ذات عمق مجال أكبر كثيرًا من كاميرات السينما الرقمية التي يصل المستشعر فيها إلى سطح أقرب في مساحته إلى مساحة التعريض لكاميرات السينما التقليدية مقاس ٣٥مم. أو مقاس ٦٥مم. أو ٧٠مم.، وهو ما يجعل مصور الأخبار التليفزيونية أكثر ثقة في وضوح الصورة من المصور السينمائي الذي يستعين بفريق كبير من المساعدين لأداء مهام عديدة يقوم بها جميعًا مصور واحد في التليفزيون.
ويمكن إضافة العزل المزيف كوسيلة خامسة، وهو نوع شائع أيضًا في التصوير الفوتوغرافي الثابت حيث تستخدم برامج معالجة الصور وكثير من تطبيقات الهواتف المحمولة تحقق ذلك بشكل رقمي أو بالاعتماد على الذكاء الإصطناعي لتعطي إيهاما بقصر عمق المجال وتحقق عزل الموضوع المصور خاصة بالنسبة لتصوير البورترية.

ثانيًا: التباين الضوئي، حيث الصورة سواء الفوتوغرافية أو السينمائية أو الفيديوية، هي تجسيد مسطح ثنائي الأبعاد من المساحات المضيئة والمظلمة يمكن توزيعها بحرفية لإعطاء أهمية لعنصر معين فيصبح معرّفًا لعين المشاهد، بينما يتم تنكير العناصر الأخرى التي يقع عليها كم أقل من الضوء، حيث المساحة الأكثر استضاءة أكثر بروزًا والمساحات المظلمة أو شبه المظلمة تصبح متوارية نسبيًا غير ملفتة لعين المشاهد، كما أن المستضيء يظهر أقرب، والمظلم يبدو بعيدًا، المستضيء واضح ومكشوف ومفروغ من أمره، بينما المظلم غامض وقد يكون مكتظًا بالأسرار والأفكار، يحفز خيال المشاهد للتنبؤ بما قد يكون موجودًا فيه أو يمكن أن يكون موجودًا ولا يظهر لعينه أي يمكن اعتبار مناطق الظل فراغات بصرية تشبه الفراغات السردية أو ما نطلق عليه (المسكوت عنه) في القصة السينمائية أو العمل التشكيلي.
هذا هو السبب الرئيسي لكون المصور المحترف لابد أن يستخدم مصادره الخاصة للإضاءة ولا يعتمد على إضاءة المكان، رغم أنها هندسيًا قد تكون كافية لإنتاج صورة جيدة لكنها لا تعطي للمصور القدرة على التحكم الجمالي والتعبيري في الصورة.
هذه النقطة تكون عادة مصدر تعجب للهواة والممولين غير المتخصصين الذين يعتبرون استخدام المصور للإضاءة الصناعية ترفًا لا أهمية له، خاصة أنه قد يستخدم مصادر إضاءة ضخمة جدًا ومكلفة للغاية بينما هو يصور في مكان مفتوح تحت شمس ساطعة، هنا يأتي تفسير هذا الأمر حيث أن عمل المصور الرئيسي هو إدارة الضوء والتحكم فيه وليس فقط توفيره.
ثالثا: العزل عن طريق الألوان، وهو واحد من الأعمال الدقيقة التي يقوم بها المصور بالتعاون مع المخرج ومصمم الديكور ومنسق الإكسسوار ومصمم الملابس والممثلين أو الموديلز، وأحيانا يقوم بكل ذلك بنفسه في الإنتاجات المحدودة الكلفة، وكل ذلك يتطلب فهما تامًا لنظرية الألوان Color Theory والتي تعني ذلك العلم المبني على الأبحاث والخبرات الإنسانية والتراكم الثقافي والمعرفي والذوق الخاص، وتوظيفها من أجل إعطاء الأهمية لعنصر محدد في الكادر يكون هو الموضوع الرئيسي، وتوزيع الأهمية في عمل أشبه بالبلاغة في اللغات المنطوقة.

طبعًا فهم الألوان مجال متسع نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الحالات العامة مثل تباين الألوان حيث ثنائيات الألوان المتقابلة تعطي تباينا يُظهر لونًا على حساب آخر مثل اللون الأحمر في مقابل الأخضر، والأصفر في مقابل الأزرق أو السيان، والأبيض في مقابل الأسود. كما أن الألوان التي توصف بالساخنة مثل الأحمر والبرتقالي والأصفر تبدو أكثر قربًا للعين من الألوان الباردة مثل الأزرق والأخضر والسيان، والألوان ذات التشبع العالي (Saturated Colors) أكثر ظهورًا وقربًا من نفس الألوان إذا كان تشبعها منخفضًا أو ما يمكن أن يطلق عليه الألوان الباهتة مجازًا، كما يستخدم كثيرا ثنائية الأبيض وأسود في مقابل الملون وهي إحدى حالات اللعب على تشبع الألوان حيث تصل الألوان عند تقليل تشبعها جدًا إلى حالة الأبيض وأسود، أيضًا هناك طريقة أخرى لتوظيف الألوان في كثير من الأفلام حيث تكون للفيلم بالتة لونية معينة، أي أن هناك منظومة ألوان محددة تطغى على الفيلم نجد عنصرًا معينًا يظهر بلون محدد كل فترة بحيث يكون هذا اللون مخالفًا تماما لكل بالتة الألوان التي ألفها المشاهد طوال الفيلم، وهنا يصبح ذلك الشيء الذي يحمل هذا اللون مميزًا بشكل واضح معزولًا عما حوله.

رابعًا: العزل عن طريق خصائص العدسات، وأغرب ما في ذلك أنك تستطيع توظيف خاصية وعكسها في نفس الغرض وهو عزل الموضوع الرئيسي، على سبيل المثال تنقسم العدسات إلى ثلاث مجموعات أساسية: (النورمال) وصورتها أقرب لما يراه الإنسان، و(التليفوتو) وهي عدسات محدودة اتساع زاوية الرؤية، تجعل الأشياء المتراصة على محور واحد أمام الكاميرا تبدو أكثر قربًا لبعضها البعض مما هي في الواقع، فيصبح الحجم النسبي لشخص يجلس في المقدمه قريبًا من شخص بعيد جدًا عنه، وهناك مثال قد يذكره الكثيرون وهو لقطة السيلويت للبطل هشام سليم في فيلم عودة الابن الضال وهو يسير تجاه الشمس وتظهر رأسه بنفس حجم قرص الشمس، وهذه لقطة مصورة بعدسة ذات بعد بؤري كبير جدًا كانت فيما يبدو عدسة ١٠٠٠مم.
النوع الثالث من العدسات هو العدسات قصيرة البعد البؤري متسعة الزاوية وهي عدسات زاوية الرؤية بالنسبة لها متسعة جدًا (نسبيًا)، وتظهر الحجم النسبي أبعد للغاية من الواقع، فيظهر الموضوع في مقدمة الكادر ضخما بينما الأشخاص أو الأشياء التي تبعد عنه سنتيمترات قليلة تظهر بعيدة جدًا وصغيرة للغاية.
يوظف المصورون خاصة مصورو الأخبار للتليفزيون كلا النوعين من العدسات طويلة البعد البؤري وقصيرة البعد البؤري لعزل الموضوع (الذي غالبًا ما يكون متحدثًا سواء كان مذيعًا أو ضيفًا) عن الخلفية التي غالبًا ما تكون مكتظة بالأشخاص والحركة الملفتة بينما يكون من المهم جعل المشاهد يركز فقط على الشخص الذي يتحدث لأن مدة ظهوره على الشاشة ستكون محدودة جدًا وليس مطروحًا ترك عين المشاهد يسرقها حدث ما يدور في الخلفية ولو للحظة واحدة.
هنا يستطيع المصور اتخاذ أحد طريقين، الأول أن يقف المصور بكاميرته بعيدا عن الشخص الذي يصوره، ويصور باستخدام عدسة طويلة البعد البؤري (ذات زاوية رؤية محدودة) لأنها ستقصي معظم ما يحدث في الخلفية ويصبح خارج الكادر، كما أن لها ميزة أخرى قد تكون مفيدة أيضًا وهي صغر عمق مجال الوضوح الذي سيجعل الخلفية مضببة غير واضحة فلا تصبح مهمة بالنسبة للمشاهد.
والحل الثاني هو الاقتراب للغاية من المتحدث، واستخدام عدسة قصيرة البعد البؤري، متسعة الزاوية، ورغم أنها ستجعل المشاهد يرى كل ما يدور في الخلفية بسبب اتساع زاوية رؤيتها كما أن كل شيء سيكون شديد الوضوح لأن عمق المجال لها كبير جدا، لكنها أيضًا ستزيد المسافة النسبية بين الموضوع (المتحدث) الأقرب للكاميرا وبين الأشخاص الآخرين الذين في خلفيته والذين سيصبحون أقل أهمية، ولصغر حجمهم لن يهتم المشاهد بهم. ويعيب هذه الطريقة وجوب أن يجعل المصور المتحدث في منتصف الكادر لأن هذه العدسة تسبب تشوها منظوريًا كلما ابتعد الموضوع عن المنتصف.

خامسًا: العزل عن طريق التكوين، وهو ترتيب المكونات داخل الكادر بحيث تلفت النظر لعنصر معين، أي تجعله معزولًا مميزًا لعين المشاهد، فعلى سبيل المثال يمكن أن تقود الخطوط الظاهرة والضمنية في الكادر عين المشاهد إلى نقطة محددة، كما يمكن أن يستخدم التأطير لعزل عنصر محدد مثلما نجد كثيرًا في شخص يقف في النافذة، كما استخدم بعض المخرجين شكل إطار الشاشة الخارجي بطريقة إبداعية لتحقيق العزل مثلما نجد عند ويس أندرسون مثلا حيث يجعل شكل الإطار مرة عريضًا ومرة مربعًا أو دائريًا أو حتى طوليًا، وأيضًا يمكن عزل عنصر معين عن طريق الفراغ السلبي، ولنذكر مثلا لقطة ظهور بطل فيلم لورنس العرب من عمق الصحراء بينما مساحة الكادر ذي الشاشة العريضة تملأها رمال الصحراء والبطل هو ورفيقه قادمان كنقطة وسط كل هذا الفراغ لكنها نقطة وحيدة مميزة تجذب عين المشاهد مباشرة خاصة مع توظيف الخطوط التي ترسمها قمم الكثبان الرملية لتوجه عين المشاهد إلى نفس النقطة.

سادسًا: العزل عن طريق الحركة، والحركة ليست قاصرة على السينما والفيديو فقط الذين يمكن جعل حركة الموضوع الرئيسي مع ثبات العناصر الأخرى أو العكس أحيانًا أو متابعة الكاميرا لإحدى الشخصيات لعزلها عن محيطها والتركيز عليها، أو حركة الكاميرا المقتربة (دوللي إن) وحركة التكبير عن طريق العدسة (زووم إن)، لكن في التصوير الفوتوغرافي أيضًا هناك عزل عن طريق الحركة، وكمثال هناك أساليب شهيرة مثل التقاط صورة سيارة متحركة ومتابعتها بالكاميرا مما يجعل الخلفية مشوشة وتبقى السيارة واضحة، أو التقاط صورة بالفلاش لشخص يقف وسط أناس يتحركون مضائين بأضواء مستمرة فيبدون ضبابيين مع وضوح الشخص الأول، أو حركة راقصة مضاءة بإضاءة مستمرة مع تشغيل إضاءة فلاش عند نقطة محددة فتبدو في هذه اللحظة واضحة بينما تظهر حركتها على طول المسار مشوشة، وغير ذلك الكثير.

سابعًا: الإقصاء، وهو نوع من العزل أيضًا، فبينما يمكنك أن تضمن عنصرًا أو عناصر معينة داخل الكادر، تستطيع تجاهل عناصر أخرى وعدم تصويرها على الإطلاق، وهو ما يفعله بشكل يومي وتلقائي مصورو الأخبار التليفزيونية، وهو ما يجعل الأمانة الملقاة على عاتقهم كبيرة جدًا، فبينما يظن مشاهد الأخبار أنه يستطيع رؤية كل شيء، ويطمئن لهذه الفكرة الوهمية، لا يتمكن هذا المشاهد إلا من مشاهدة ما اختاره له مصور الأخبار وقرر أنه الأهم والمناسب لعرضه على الجمهور.
ثامنًا: العزل الصوتي، وهو ميزة في السينما والفيديو، طبعًا لا يضاهيها التصوير الفوتوغرافي، لأنه يعني خلق تميز لعنصر معين عن طريق ظهور صوته وغياب أو تشويش الأصوات الأخرى في البيئة المحيطة به، ونقصد هنا بالبيئة المحيطة ما يظهر حوله داخل الكادر لعين المشاهد، وليس فقط البيئة المحيطة بالموضوع المصور في مكان التصوير.
يبدأ توظيف العزل الصوتي في مكان التصوير بإقصاء الأصوات المحيطة، فتجد المحترفين يحرصون على استخدام ميكروفونات يمكن تقريبها جدًا من الشخص المتحدث مثل الميكروفون المعلق في ملابس المتحدث، أو الهاند مايك الذي يتميز بزاوية التقاط محدودة للغاية، أو البووم مايك الذي يحمله مساعد الصوت ويوجهه لالتقاط الصوت من المتحدث فقط بزاوية التقاط محدودة ومجموعة من الفلاتر الداخلية أو العوازل المركبة عليه من الخارج والتي تتحكم في إقصاء الأصوات الغير مرغوبة والتي تحيط بالشخص المتحدث مثل صوت الرياح.
بعد التسجيل أيضًا يكون هناك تحكم كبير في عزل الموضوع المتحدث عن طريق المكساج الصوتي، فقد نجد صوت البيئة المحيطة التي غالبا في الدراما ما يتم تخليقها بعد التصوير في استوديو المؤثرات الصوتية، يكون هذا الصوت أو الضجيج عاليا نسبيًا ثم يتلاشى رويدًا ليصبح صوت المتحدث مسموعًا وحده، وقد يتم إقصاء صوت المتحدث نفسه والغوص أكثر في نفسه فيسمع المشاهد صوت حديث داخلي. هذه مةجرد أمثلة للتوضيح لكن تطبيقات العزل الصوتي الإبداعية لا حصر لها.
تاسعًا: العزل السردي (المونتاجي)، وهي خاصية تميز السينما والتليفزيون، حيث يمكن التركيز على عنصر معين عن طريق القطع المباشر بين لقطة واسعة وأخرى مقربة، أو بوضع تتابع معين للقطات المتسلسلة يفهمه المشاهد كإقصاء لعناصر المشهد والتركيز على أحدها فقط.
عاشرًا: العزل المعنوي أو الضمني، حيث العنصر الفريد يصبح بارزًا مثل زهرة نامية في قلب الجبل (البعض قد يتذكر التصوير التليفزيوني القديم لنشيد ديني للمطرب الراحل عبدالحليم حافظ والتي تقول كلماتها: "ياخالق الزهرة في حضن الجبل من فوق" وتظهر صورة لوردة متفتحة نامية وسط صخرة ضخمة صلدة)، أو طفل بملامح رقيقة وسط مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح، كما يمكن تصور شخص ينظر في اتجاه العدسة بينما يولي الآخرون ظهورهم للمشاهد، بالتأكيد سيميز المشاهد من ينظر إليه بسهولة أكبر وسيهمل الآخرين. وغير ذلك من الصور العديدة التي يمكننا استدعاؤها بسهولة.
إذًا فالعزل ليس مجرد تقنية محدودة يستخدمها المصور لإبهار عين المشاهد، لكنه مفهوم عميق يمكن اعتباره أصل ما وجدت بسببه وظيفة المصور أو المخرج، الذي يكون عليه من خلال علمه وموهبته مخاطبة عقل المتلقي بتوظيف العزل (أو اللا عزل أحيانًا) لإيصال المعنى والتفاعل مع الموضوع سواء كان هذا العزل بصريًا أو صوتيًا، ظاهرًا أم ضمنيًا.
أحمد صلاح الدين طه
٣ يونيو ٢٠٢٥
dedalum.info@gmail.com